سورة التوبة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
قال قتادة نزلت في عايد بن عمرو وأصحابه، وقال الضحاك: في عبد الله بن زايد وهو ابن أم مكتوم وكان ضرير البصر فقال: يا نبي الله إني شيخ ضرير البصر خفيف الحال نحيف الجسم وليس لي فائدة هل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في البكائين وكانوا سبعة: معقل بن يسار وصخر بن خنساء وهو الذي واقع امرأته في رمضان فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفّر وعبد الله بن كعب الأنصاري وعلبة بن زيد الأنصاري وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن معقل أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إن الله عزّ وجلّ قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزوا معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم {لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فتولوا وهم يبكون فذلك قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} قال مجاهد: نزلت هذه الآية في عبد الله وعبد الرحمن وعقيل والنعمان وسويد وسنان: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} الآية {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أن نصدّقكم {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} فيما بعد أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من المحسن والمسيء {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم} انصرفتم {إِلَيْهِمْ} عندهم {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} لتصفحوا عن جرمهم ولا تردونهم ولا تؤنبونهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} ودعوهم وما اختاروا لأنفسهم من الشأن والمعصية {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} نجس، قال عطاء: أن عملهم نجس {وَمَأْوَاهُمْ} في الآخرة {جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} قال ابن عباس: «نزلت في جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قدموا المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم».
وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أُبي حَلَف النبي صلى الله عليه وسلم بالذي لا إله إلاّ هو أن لا يرضى عنهم بعدها، وليكون معه على عدوه وطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين * الأعراب} يعني أهل البدو {أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} من أهل الحضر {وَأَجْدَرُ} أحرى وأولى {أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال قتادة: هم أقل علماً بالسنن.
وروى الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو مع أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال الأعرابي: والله ما أدري إن حديثك ليعجبني وإنَّ يدك لترعبني فقال: أي يد من يدي إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} الآية {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} قال عطاء: لا يرجو على إعطائه ثواباً ولا يخاف على إمساكه لها إنما ينفق خوفاً رياءً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} يعني صروف الزمان التي تأتي مرّة بالخير ومرّة بالشرّ. قال: أن متى ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} قرأ ابن كثير وابن محصن ومجاهد وأبو عمرو بضم السين ههنا وفي سورة الفتح، ومعناه الشر والضر والبلاء والمكروه، وقرأ الباقون على الفتح بالمصدر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم في هذه الآية {مِّنَ الأعراب} أسد وغطفان وتميم واعراب حاضري المدينة ثم استثنى فقال: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة وقال الضحاك: يعني عبد الله ذا النجادين ورهطه.
وقال الكلبي أسلم وغفار بنو جهينة {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله} جمع قرابة {وَصَلَوَاتِ الرسول} يعني دعاءه واستغفاره {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين} الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم {والأنصار} الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وأيّدوا أصحابه وقد كانوا آمنوا قبل أن يهاجروا إليهم بحولين {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} يعني الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة.
وقال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين بالوفاء والترحّم والدعاء ويذكرون مجاورتهم ويسألون الله أن يجمع بينهم.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان برفع الواو وحذف الواو من الذين، قال له أُبيّ بن كعب: إنما هو والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وإنه قد كرّرها مراراً ثلاثة، فقال له: إني والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان، وإنك يومئذ شيخ تسكن ببقيع الغرقد، قال: حفظتم ونسينا وتفرغتم وشغلنا وشهدتم وغبنا ثم قال عمر لأُبيّ: أفيهم الأنصار؟ قال: نعم ولم يستأ من الخطاب ومن ثمّ قال عمر: قد كنت أظن إنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي: بلى، تصديق ذلك أول سورة الجمعة وأواسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال. قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الجمعة: 3] إلى آخره وقوله تعالى: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] إلى آخر الآية، وقوله: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ} [الأنفال: 75]، وقرأ الحسن وسلام ويعقوب: {والأنصار} رفعاً عطفاً على السابقين ولم يجعلوهم منهم وجعلوا السبق للمهاجرين خاصة والمقاسة على الخبر نسقاً على المهاجرين.
واختلف العلماء في السابقين الأولين من هم. فقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلّوا القبلتين جميعاً.
وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدراً.
وقال الشعبي: هم الذين شهدوا حجة الرضوان.
واختلفوا أيضاً في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة بنت خويلد مع اتفاقهم أنها أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدّقته. فقال بعضهم: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى معه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر وربيعة الرأي وأبي حازم المدني.
وقال الكلبي: أسلم علي وهو ابن تسع سنين، وقال مجاهد وابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان نعمة الله على علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله للعباس وكانا من أيسر بني هاشم: «يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ من بنيه رجلا فنكفيهما عنه».
فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه فضمّه إليه وأخذ العباس جعفراً يضمّه إليه فلم يزل علي رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيًّا فاتبعه علي رضي الله عنه.
فآمن به وصدقه ولم يزل جعفر مع العباس ذ حتى أسلم واستغنى عنه.
وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت: يا عباس أمرٌ عظيم فقال: أمرٌ عظيم.
فقلت: ويحك ما هذا؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء.
قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه: ليتني كنت رابعاً. فيروي أن أبا طالب قال لعلي رضي الله عنه: أي بني ما هذا الذي أنت عليه قال: آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء وصليت معه لله. فقال له: أما أن محمداً لا يدعو إلاّ إلى خير فالزمه.
وروى عبد الله بن موسى عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عبّاد بن عبد الله قال: سمعت عليًّا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كذاب مفتر، صلّيت قبل الناس بسبع سنين.
وقال بعضهم: أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر رضي الله عنه وهو قول إبراهيم النخعي وجماعة يدلّ عليه ما روى أبو أمامة الباهلي «عن عمرو بن عنبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله من تبعك في هذا الأمر؟ قال صلى الله عليه وسلم: اتبعني رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال» فأسلمت عند ذلك، فلقد رأيتي إذ ذاك ربع الإسلام.
قال: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الله البدخشي يقول سمعت أبا هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول: سمعت غياث بن معاذ يقول: سمعت وكيع بن الجراح يقول: عن إسماعيل بن خالد عن الشفهي قال: قال رجل لابن عباس: مَن أول الناس إسلاماً قال: أبو بكر رضي الله عنه أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة *** فاذكر أخاك أبابكر بما فعلا
خير البرية أزكاها وأعدلها *** بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده *** وأول الناس منهم صدّق الرسلا
قال بعضهم: أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة، وهو قول الزهري وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس، وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي جمع بين الأخبار فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله. قال: وكان أبو بكر رجلا مؤالفاً لقومه محباً سهلا وكان أنسب قريش لقريش، أعلم قريش بها وبما كان منها من خير أو شر، وكان رجلا ناجياً ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يهابونه ويأتونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه فيما بلغني عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الاسلام من المهاجرين.
فأما سبّاق الأنصار فأهل بيعة العقبة الأولى فكانوا سبعة، والثانية كانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد الدار فعلّمهم القرآن، فهو أول من جمع الصلاة بالمدينة وكانت الأنصار تحبه فأسلم معه سعد بن معاذ وعمرو بن الجموح وبنو عبد الأشهل كلهم وخلقٌ من النساء الصبيان، «وكان مصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم أحد وكان وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حيث انهزم الناس، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفذت المشاقص في جوفه، فاستشهد يومئذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عند الله أحتسبه ما رأيت قط أشرف منه لقد رأيته بمكة وإن عليه بردين ما يدري ما قيمتهما وإنّ شراك نعليه من ذهب، وإنّ عن يمينه غلامين وعن يساره غلامين بيد كل واحد منهما جفنة من طعام يأكل ويطعم الناس، فآثره الله بالشهادة».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُهديت إليه طرفة حناها لمصعب بن عمير فأنزل الله تعالى فيه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] الآية، وأُخذ أخوه يوم بدر أسيراً فقال: أنا أبو غدير بن عمير أخو مصعب فلم يشدد من الوثاق مع الأسرى وقالوا: هذا الطريق فاذهب حيث شئت، فقال: إني أخاف أن تقتلني قريش فذهبوا به إلى [...] فيمدّ يده بالخبز والتمر وكان يمدّ يده إلى التمر ويدع الخبز، والخبز عند أهل المدينة أعزّ من التمر، والتمر عند أهل مكة أعزّ من الخبز فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير وقالوا له: أخوك عندنا وأخبروه بما فعلوا به. فقال: ما هو لي بأخ ولا كرامة، فشدّوا وثاقه فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليًّا فأرسلت أمه في طلبه ثمّ أقبل يوم أحد فلما رأى أخاه مصعب بن عمير. قال في نفسه: والله لا يقتلك غيري فما زال حتى قتله وفيه أنزل الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طغى * وَآثَرَ الحياة الدنيا * فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} [النازعات: 37-39] ثمّ جمعهم في الثواب فقال: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} وقرأ أهل مكة: من تحتها الأنهار وكذا هو في مصاحفهم {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم}.
قال الحسن بن الفضل: والفرق بينهما أن قوله: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} معناه تجري من تحت الأشجار، وقوله: تجري من تحتها أي ينبع الماء من تحتها ثمّ تجري من تحت الأشجار.
وروي في هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: «أين السابقون؟» قال معاذ: قد مضى ناس فقال: «السابقون المستهترون بذكر الله من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله تعالى» {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ} نزلت في مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانت منازلهم حول المدينة {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} فيه اختصار وإضمار تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، أي مرّنوا وتربّوا عليه يُقال: تمرّد فلان على ربّه ومرد على معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ومنه: تمريد ومارد وفي المثل: تمرّد مارد وعزّ الإباق، وقال ابن إسحاق: لجّوا فيه وأبوا غيره، وقال ابن زيد وابان بن تغلب: أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب الآخرون، وأنشد الشاعر:
مرد القوم على حيهم *** أهل بغي وضلال وأشر
{لاَ تَعْلَمُهُمْ} أنت يا محمد {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} قال قتادة في هذه الآية: ما بال أقوام يتكلّفون على الناس يقولون فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري أخبرني أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح عليه السلام: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 112] وقال نبي الله شعيب عليه السلام: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] وقال الله لنبيه عليه السلام: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} واختلفوا في هذين العذابين وروي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال: «أخرج يا فلان فإنك منافق. اخرج يا فلان فإنك منافق».
فأخرج من المسجد ناساً وفضحهم فهذا العذاب الأول، والثاني عذاب القبر.
وقال مجاهد: بالجوع وعذاب القبر، وعنه أيضاً: بالجوع والقتل وعنه بالجوع مرّتين، وعنه: بالخوف والقتل.
وقال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر، وفيه قصة الأثني عشر في حديث حذيفة.
وقال ابن زيد: المرّة الأولى المصائب في الأموال والأولاد، والمرة الأخرى في جهنم.
وقال ابن عباس: إن المرة الأولى إقامة الحدود عليهم والثاني عذاب القبر.
قال الحسن: إحدى المرتين أخذ الزكاة من أموالهم والأخرى عذاب القبر، فيقول تفسيره في سورة النحل {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ}.
وقال ابن إسحاق: هو ما يدخل عليهم في الإسلام، ودخولهم من غير حسبة ثمّ عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ثمّ العذاب العظيم في الآخرة والخلد فيه.
وفي بعض التفاسير: الاولى ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم والأخرى عذاب القبر.
وقيل: تفسيره في سورة النحل {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} [النحل: 88].
وقال مقاتل بن حيان: الأول بالسيف يوم بدر والثاني عند الموت.
معمر عن الزهري عن الحسن قال: عذاب النبي وعذاب الله. يعني بعذاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61]. قال عطاء: الأمراض في الدنيا والآخرة فإن من مرض من المؤمنين كفّر الله سيّئاته ومحض ذنوبه فأبدله لحماً من لحمه ودماً كثيراً من دمه وأعقبه ثواباً عظيماً، ومن مرض من المنافقين زاده الله نفاقاً وإثماً وضعفاً كما قال في هذه السورة: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} يريد أنهم يمرضون في كل عام مرة أو مرتين فيردّون إلى عذاب عظيم شديد فظيع.
وقال الربيع: بلايا الدنيا وعذاب الآخرة ثم يردون إلى عذاب عظيم عذاب جهنم.
وقال إسماعيل بن زياد: أحد العذابين ضرب الملائكة والوجوه والأدبار، والثاني عند البعث يوكل بهم عتق من النار.
وقال الضحاك: مرّة في القبر ومرّة في النار، وقيل: المرّة الاولى بإحراق مسجدهم مسجد ضرار والثانية بإحراقهم بنار جهنم، وقيل: مرّة بإنفاق أموالهم ومرّة بقتلهم بالسيف إن أظهروا مافي قلوبهم.
{وَآخَرُونَ} يعني ومن أهل المدينة آخرون أو من الأعراب وليس براجع إلى المنافقين {اعترفوا} أقرّوا بك وبربّهم {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً} وهو إقرارهم وتوبتهم {وَآخَرَ سَيِّئاً} أي بعمل سيّء وضع الواو موضع الياء فكما يُقال: إستوى الماء والخبث أي بالخبث وخلطت الماء واللبن أي باللبن فالعمل السيء تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم الجهاد {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وعسى ولعل من الله واجب وهما حرف ترجّ.
{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} نزلت هذه الآية في قوم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا عليه وتذمموا، وقالوا: نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد والله لنوثقنّ أنفسنا بالقيود في أيدينا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا أو يعذبنا، وبقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بهم فرآهم فقال: مَن هؤلاء؟ قالوا: تخلّفوا عنك فعاهدوا الله ألاّ يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وتعذرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا أقسم بالله لا أُطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم فلما أُطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك فتصدّق بها عنا وطهّرنا واستغفر لنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فأنزل الله عزّوجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
واختلفوا في أعداد هؤلاء الناس وأسمائهم فروى علي بن ابي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم أبو منية: منهم هلال وأبو لبابة وكردم ومرداس وأبو قيس، وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة منهم جد بن قيس وأبو لبابة وجدام وأوس، كلّهم من الانصار.
وقال عطية عن ابن عباس: كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة، وقال آخرون: نزلت في أبي لبابة واختلفوا في ذنبه. فقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى رقبته، وقد مضت القصة في سورة الأنفال. فندم وتاب فأقرّ بذنبه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
قال الزهري: نزلت في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية فقال: والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغشياً عليه فأنزل الله تعالى {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة فقال: والله لا أحل نفسي منها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلّني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحلّهُ بيده، ثمّ قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أبرّ دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: «يجزيك يا أبا لبابة الثلث».
قالوا جميعاً: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلث أموالهم وترك الاثنين لأن الله عزّ وجلّ قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ولم يقل: أموالِهم، فلذلك لم يأخذ كلها.
وقال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلّفوا {تُطَهِّرُهُمْ} من ذنوبهم والقراءة بالرفع حالاً لاجواباً، أي خذ من أموالهم صدقة مطهرة ومزكّية كقول الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره *** تجد خير نار عندها خير موقف
وقرأ مسلمة بن محارب: تطهرهم وتزكيهم بالجزم على الجواب، وقرأ الحسن: تطهرهم خفيفة من أطهر تطهير {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي تطهرهم، وقيل: تصلحهم، وقيل: ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين، وقيل: هي أموالهم.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي استغفر لهم وادعُ لهم، وقيل: هو قول الوالي إذا أخذ الصدقة: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، والصلاة في اللغة الدعاء ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجبه فإن كان مفطراً فليأكل وإن كان صائماً فليصلِ» أي فليدع، وقال الأعشى:
وقابلها الريح في دنّها *** وصلّي على دنّها وارتسم
أي دعا لها بالسلامة والبركة.
وقال أيضاً:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا *** يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي *** نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
{إِنَّ صلاوتك} قرأ أهل الكوفة: صلاتك على الواحد هاهنا وفي سورة هود والمؤمنين بإضماره.
أبو عبيد قال: لأن الصلاة هي من الصلوات، وروى ذلك عن ابن عباس، ألا تسمع الله يقول: {أَقِيمُواْ الصلاة} فهذه صلاة الأبد، والصلوات للجمع كقوله: صليت صلوات أربع وخمس صلوات، وقرأ الباقون كلها بالجمع واختاره أبو حاتم، قال: ومن زعم أنّ الصلوات من الصلاة لأن الجمع بالتاء قليل فقد غلط، لأن الله تعالى قال: {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} [التحريم: 12] لم يرد القليل.
{سَكَنٌ لَّهُمْ} قال ابن عباس: رحمة لهم، وقال قتادة: وقار لهم، وقال الكلبي: طمأنينة لهم إن الله قد قبل منهم، وقال معاذ: تزكية لهم منك، أبو عبيدة: تثبيت.
{والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} شعبة عن عمرو بن مرّة عن عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقاتهم قال: «اللهم صلّ عليهم»، فأتيته بصدقتي فقال: «اللهم صلّ على أبي أوفى» قال ابن عباس: ليس هذا صدقة الفرض، إنما هو كصدقة كفارة اليمين، وقال عكرمة: هو صدقة الفرض. فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يذنبوا متخلّفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لايكلمون ولايجالسون فما لهم؟ فقال الله عزّ وجلّ: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} الآية ومعنى أخذ الصدقات. قبولها.
الشافعي عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب قوته ولا يقبل الله عمله ولا يصعد إلى السماء إلاّ طيّب إلاّ كان إنما يضعها في يدي الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى أن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم». ثم قرأ: {أنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ}، وتصديق ذلك في كتاب الله المنزل {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276] إلى قوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].
وقال مجاهد: هذا وعيد لهم، وفي الخبر: لو أتى عَبَدَ الله في صخرة لا باب لها ولا كوّة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان.


{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} أي مؤخرون لأمر الله ليقضي فيهم ما هو قاض، وهم الثلاثة الذين خلفوا وربطوا بالسواري أنفسهم ولم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فرفق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى شقهم القلق وتهتكهم الحزن وضاقت عليهم الارض برحبها وكانوا من أهل بدر، فجعل الناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى أن يغفر الله لهم، فصاروا فرحين لأمر الله لا يدرون يعذبون أو يرحمون حتى تاب الله عليهم بعد خمسين ليلة ونزلت {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}.
قوله تعالى: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} الآية، قال المفسرون: إنّ بني عمر بن عوف اتخذوا مسجد قبا وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم فأتاهم فصلى فيهم فحسدهم إخوتهم بنو غنم ابن عوف، وقالوا: نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا وليصلي فيه أبو عامر النعمان الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر رجلاً منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهّب في الجاهلية وتنصّر ولبس المسوح. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم»، قال أبو عامر: فأنا عليها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنك لست عليها» قال: بلى ولكنك أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية»، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أمات الله الكاذب منّا طريداً وحيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمين»، وسمي العامر الفاسق. فلما كان يوم أُحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أجد قوماً يقاتلونك إلاّ قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، وذلك قوله تعالى: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا وكان الذين بنوه اثنا عشر رجلاً: خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو الأرعد، وعباد بن حنيف، وحارثة بن عامر، وجارية وابناه مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث. ولحاد بن عثمان، ووديعة ابن ثابت، وكان يصلي بهم مجمع بن يسار، فلما فرغوا أتوا رسول الله صلى الله عليه سلم هو يتجهز إلى تبوك، وقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني على جناح السفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه».
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة، فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن فأخبره الله عزّ وجلّ خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي قاتل حمزة وقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» فخرجوا سريعاً حتى اتوا سالم بن عوف واتوا رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لهم: انتظروا حتى آتي لكم بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجوا ينشدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدّموه وتفرّق عنه أهله وامر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والدنس والقمامة، ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيداً غريباً وفيه يقول كعب بن مالك:
معاذ الله من فعل الخبيث *** كسعيك في العشيرة عبد عمرو
فاما قلت بأن لي شرف ونخل *** قدما بعت إيماناً بكفر
قال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلاً منهم ماذا أعنت في هذا المسجد فقال: أعنت في سارية فقال عمر: أبشر بها في عنقك في نار جهنم.
ويروى أنّ بني عمر بن عوف الذين بنوا مسجد قبا سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمّهم في مسجدهم فقال: لا ولا نعمة عين أليس هو مسجد الضرار، فقال له مجمّع: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليَّ. فوالله لقد صليت فيه واني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولقد علمت ما صلّيت معهم فيه كنت غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا ثبوتاً قد رغبوا وكانوا لا يعلمون من القرآن شيئاً فصليت ولا أحسب منعوا شيئاً إلاّ أنهم يتضرعون إلى الله ولم أعلم ما في أنفسهم.
فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصلاة في مسجد قبا. فهذا قصة مسجد الضرار الذي أنزل الله عزّ وجلّ فيه {والذين اتخذوا مَسْجِداً} قرأه العامة بالواو، وقول أهل المدينة والشام بغير الواو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام.
قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم ألاّ يتخذوا في مدينتهم مسجدين مجاوراً أحدهما لصاحبه.
وروى ليث أن شقيقاً لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا بعد.
قال: لا أحب أن أُصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني على ضرار أو رياءً أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى مسجد ضرار.
{وَكُفْراً} نفاقاً {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين} يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا صلون جمعاً في مسجد قبا فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم دون مسجد قبا وبعضهم في مسجد قبا فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا {وَإِرْصَاداً} وانتظاراً وإعداداً {لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْل} وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قرأ الأعمش وإرصاداً للذين حاربوا الله {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} ما أردنا {إِلاَّ الحسنى} إلاّ الفعلة الحسنى وهي للمرضى المسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم وحلفهم ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. لَّمَسْجِدٌ} اللام فيه لام الابتداء والقسم تقديره والله لمسجد {أُسِّسَ عَلَى التقوى} أى بني أصله وابتدئ بناؤه {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أول يوم بني، وقيل معناه: منذ أول يوم وضع أساسه. قال المبرد: قيل في معنى البيت من حج وامن دهر. أي من هو حج وأمن دهر، وأنشأ زهير:
لمن الديار بقنة الحجر *** أقوين من حج ومن دهر
منذ حج ومنذ دهر. {أَحَقُّ} أولى {أَن تَقُومَ فِيهِ} مصلياً، واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى ما هو؟ فقال قوم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره.
أخبرنا عبد الله بن حامد وأخبرنا العبدي. حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا الجماني، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عثمان بن عبد الله بن ابي رافع عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري قالوا: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدل عليه ما روى حميد الخراط عن ابي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الرحمن حدثه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه قال: فقلت: يا رسول الله اي المسجد الذي أسس على التقوى؟ فأخذَ كفّاً من الحصى فضرب به الأرض. ثم قال: «هو مسجدكم هذا مسجد المدينة».
وروى أنس بن ابي يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال العوفي: هو مسجد قبا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: هو هذا، يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن يزيد وابن زيد وعروة بن الزبير: هو مسجد قبا، وهي رواية علي بن أبي طلحة وعطية عن ابن عباس.
{فِيهِ} ومن حضر {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} من الأحداث والنجاسات بالماء، قال الكلبي: هو غسل الأدبار بالماء، وقال عطاء: كانوا يستنجون بالماء لاينامون بالليل على الجنابة.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قبا لما نزلت هذه الآية: «إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم في الطهور فما هو؟ قالوا: إنا نستنجي بالماء».
{والله يُحِبُّ المطهرين} اي المتطهرين فأدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
قال يزيد بن عجرة: أتت الحمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟» قالت: أم ملدم انشف الدم، وآكل اللحم وأُصفر الوجه وأُرقق العظم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فاقصدي الأنصار فإن لهم علينا حقوقاً» فَحُمّ الأنصار. فلما كان الغد قال: «ما للأنصار؟» قال: فحموا عن آخرهم. فقال: «قوموا بنا نعودهم» فعادهم وجعل يقول: «أبشروا فإنها كفارة وطهور».
قالوا: يا رسول الله ادعوا الله أن يديمها علينا أعواماً حتى تكون كفّارة لذنوبنا، فأنزل الله تعالى عليهم {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} بالحمى عن معاصيهم {والله يُحِبُّ المطهرين} من الذنوب.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} اختلف القرآء به فقرأ نافع وأهل الشام: أُسس بنيانه بضم الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل، وذكر أبو حاتم عن زيد بن ثابت، وقرأ عمارة بن صايد: أسس بالمد وفتح السين والنون في وزن آمَنَ، وكذلك الثانية وآسس وأُسّس واحد افعل وفعل يتقاربان في التعدية. وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد السين الأُولى على تسمية الفاعل واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
{على تقوى مِنَ اللَّهِ} وقرأ عيسى بن عمرتقوىً من الله منوّناً {وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا} أي شفير وقال أبو عبيد: الشفا الحد وتثنيته: الشفوان.
{جُرُفٍ} قرأ عاصم وحمزة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل وهما لغتان وهو السير الي لم تطؤ. قال أبو عبيدة: هو الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية {هَارٍ} أي هائر وهو الساقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو. يقال هو من المقلوب يقلب ويؤخر ياؤها فيقال هار ولات كما يقال شاكي السلاح وشائك السلاح وعاق وعائق، قال الشاعر:
ولم يعقني عن هواها عاق....
وقيل: هو من هار يهار إذا انهدم مثل: خاف يخاف، وهذا مثل لضعف نيّاتهم وقلّة بصيرتهم في علمهم {فانهار} فانتثر يقال: هار وانهار ويهور بمعنى واحد إذا سقط وانهدم ومنه قيل تهوّر الليل إذا ذهب أكثره، وفي مصحف أُبيّ: فإنهارت به قواعده {فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} قال قتادة: والله ما تنامى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيها فرأى الدخان يخرج منه قال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار، وقال خلف بن ياسين الكوفي: حججت مع أبي في زمان بني أُمية فرأيت في المدينة مسجد القبلتين يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبا وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهدّم البناء الذي بني على يدي عبد الصمد بن عليّ، ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة.
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً} شكّاً ونفاقاً {فِي قُلُوبِهِمْ} يحسبون أنهم كانوا ببنائه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى. قال ابن عباس: شكاً ونفاقاً، وقال الكلبي: حبّبه وزيّنه لأنّهم زعموا أنهم لا يتبعونه، وقال السدي وحبيب والمبرد: لأنّ الله هدم بنيانهم الذي بنوا حزازة في قلوبهم {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} تتقطع قلوبهم فيموتوا كقوله تعالى: {لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 46] لأن الحياة تنقطع بانقطاع القلب.
وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم: إلى أن تقطع، خفيفة على الغاية، يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة، لا يزالون في شك منهم إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبيّنوا.
واختلف القُراء في قوله: {تَقَطَّعَ}. قال أبو جعفر وشيبة وابن عامر وحمزة والمفضل وحفص: تقطع بفتح التاء والطاء مشدداً، يعني تقطع ثم حذفت إحدى التائين، وقرأ يحيى بن كثير ومجاهد ونافع وعاصم وأبو عمرو والكسائي {تُقَطَّعَ} بضم التاء وتشديد الطاء على غير تسمية الفاعل وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، قرأ يعقوب {قَطَعَ} بضم التاء خفيفة من القطع.
وروي عن ابن كثير {تقطع} بفتح التاء خفيفة {قُلُوبُهُمْ} نصباً أي تفعل أنت ذلك بهم، وقرأ ابن مسعود والأعمش ولو قطعت قلوبهم.
{والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.


{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}
{إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً. قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم أموالكم»، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنة».
وقال الأعمش: الجنة وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عليه {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} قال إبراهيم النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل على معنى فيقتل بعضهم ويقتل الباقون، وقرأ الباقون: بتقديم الفاعل على المفعول {وَعْداً} نصب على المصدر {عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن} ثم هنّأهم فقال عزّ من قائل: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} قال قتادة: ثامنهم وأغلى ثمنهم، وقال الحسن: أسمعوا بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على وجه الأرض مؤمن إلاّ دخل في هذه البيعة.
قال: «ومرّ أعرابي بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: كلام من هذا؟ قال: كلام الله. قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد».
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي. قال: أنشدنا أبو الحسن العقيلي. أنشدنا بشر بن موسى الأسدي. أنشدني الأصمعي عن جعفر الصادق رضي الله عنه.
أُثامن بالنفس النفيسة ربها ***
فليس لها في الخلق كلهم ثمن *** بها تشترى الجنات إن أنا بعتها
بشيء سواها إن ذلكم غبن *** إذا أذهبت نفسي بدنيا أصبتها
فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمن ***
وكان الصادق يقول: أيا من ليست له قيمة أنه ليس لأبدانكم إلاّ الجنة فلا تبيعوها إلاّ بها.
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي. أنشدنا القاضي أبو الربيع محمد بن علي. أنشدنا أبو علي الحسن بن عاصم الكوفي:
من يشتري قبة في العدن عالية *** في ظل طوبى رفيعات مبانيها
دلالها المصطفى والله بايعها *** فمن أراد وجبريل يناديها
ثم وصفهم فقال: {التائبون} أي هم التائبون، وقرأ ابن مسعود التائبين العابدين بالنصب آخرها، قال المفسرون: تابوا من الشرك وبرأوا من النفاق {الْعَابِدُونَ} المطيعون الذي أخلصوا فيه الشهادة.
وقال الحسن وقتادة: هم قوم اتخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم فعبدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء {الحامدون} الله على كل حال في كل نعمة {السائحون} الصائمون.
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السائحون الصائمون».
وروى شيبان بن عبد الرحمن عن الأشعث قال: سألت سعيد بن جبير عن السائحين فقال: هم الصائمون ألم تر أنّ الله عزّ وجلّ إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين.
قال سفيان بن عيينة: أما إنّ الصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال الشاعر في الصوم:
تراه يصلي ليله ونهاره *** يظل كثير الذكر لله سائحاً
وقال الحسن: السائحون الذين صاموا عن الحلال وأمسكوا عن الحرام وههنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ولا يمسكون عن الحرام فالله ساخط عليهم، وقال عطاء: السائحون الغزاة والمجاهدون، وعن عمرو بن نافع. قال: سمعت عكرمة وسُئل عن قول الله تعالى: {السائحون} قال: هم طلبة العلم {الراكعون الساجدون} يعني المصلين {الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر} قال بسام بن عبد الله: المعروف السنّة والمنكر البدعة.
{والحافظون لِحُدُودِ الله} قال ابن عباس: القائمون على طاعة الله، وقال الحسن: أهل الوفاء ببيعة الله {وَبَشِّرِ المؤمنين * مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية.
فروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي عم إنك أعظم الناس عليَّ حقاً وأحسنهم عندي قولاً ولأنت أعظم عليَّ حقاً من والدي فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي يوم القيامة. قل: لا إله إلا الله أُحاجّ لك بها عند الله».
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفر لك يا عم الله» فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية، ونزلت {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الآية.
قال الحسن بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
وقال عمرو بن دينار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي» فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمّه. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن محمّد بن كعب قال حدثنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا جعفر بن عون قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه الذي قبض فيه، قالت قريش له: يا أبا طالب أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنّة فيكون لك شفاء، فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر معه جالس فقال زيد: إنّ عمك يقول لك يا ابن أخي إني كبير وشيخ ضعيف فادعوا إليّ من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيء يكون لي فيه شفاء.
فقال أبو بكر: إن الله حرّمها على الكافرين. قال: فرجع إليهم الرسول فقال: بلغت محمّداً الذي أرسلتموني به فلم يحر إليّ شيئاً فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين قال: فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولاً من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرّمهما على الكافرين طعامها وشرابها»، ثم قام في أثره حتى دخل معه البيت فوجده مملوءاً رجالا فقال: «خلوّا بيني وبين عمي»، فقالوا: ما نحن بفاعلين وما أنت أحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فجلس إليه فقال: «يا عم جزيت عني خيراً كفلتني صغيراً وحفظتني كبيراً فجزيت عني خيراً. يا عماه أعنّي على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة، قال: وما هي يا ابن أخي؟ قال: قل لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له». قال: إنك لي لناصح، والله لولا أن تعيّر بها بعدي يقال جزع عمك عند الموت لأقررت بها عينك، قال: فصاح القوم: يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ لا تحدث نساء قريش أني جزعت عند الموت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردّني فاستغفر له بعد ما مات».
فقال المسلمون: ما منعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت هذه الآية.
والدليل على ما قيل أن أبا طالب مات كافراً ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا المزني. قال: حدثنا أحمد بن نجدة حدثنا سعد بن منصور حدثنا أبو الأحوص أخبرنا أبو إسحاق قال: «قال علي عليه السلام لما مات أبو طالب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن عمك....... قال: اذهب فادفنه ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني، فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليَّ أثر التراب فدعا لي بدعوات ما يسرني أنَّ لي بها ما على الأرض من شيء».
وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا} الآية، فقام وبكى وبكى من حوله فقال: «إني استأذنت ربي أن أزورها فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت» فلم نرَ باكياً أكثر من يومئذ.
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار فنهاهم ولم ينتهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، وقال قتادة: قال رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم ألا نستغفر لهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلى، وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه، فأنزل الله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ}» أي ما ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين.
وقال أهل المعاني: ما كان في القرآن على وجهين أحدهما بمعنى النفي كقوله تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] والأُخرى بمعنى النهي كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53]، وقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا} نهي.
{مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} بموتهم على الكفر، وتأوّل بعضهم الاستغفار في هذه الآية على الصلاة. قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلاّ عن المشركين كقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ} الآية، ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} الآية.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنزل الله قوله تعالى خبراً عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47]. [قال علي:] سمعت فلاناً يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لهما مشركان، قال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] إلى قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] وقوله: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} يعني بعد موعده.
وقال بعضهم: الهاء في إيّاه عائدة إلى إبراهيم، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك قال إبراهيم: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وهو قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي}، وقوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] الآية، تدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ} بموت أبيه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وقيل: معناه: فلمّا تبين له في الآخرة أنه عدو لله، وذلك على ما روى في الأخبار أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يقول يوم القيامة: رب والدي رب والدي، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ بحبري فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم عليه السلام التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع، فتخلّى عنه وتبرأ منه يومئذ وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال، تقديره: يتبيّن ويتبرأ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} اختلفوا في معناه، فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأوّاه فقال: الخاشع المتضرع، وقال أنس:
تكلّمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر رضي الله عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعرض عنها فأنها أوّاهة» قيل: يا رسول الله وما الأوّاهة؟ قال: «الخاشعة».
وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} فقال: كان إذا ذكر النار قال: أوه.
وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: الأواه الدعَّاء، وقال الضحاك: هو الجامع الدعاء.
وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال: جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريراً إلى ابن مسعود قال: يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك، ما الأوّاه؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال: الأواه الرحيم.
وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله، وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم يوم الحشر، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب، مجاهد: الأواه المؤمن [الموقن، وروي عن......] عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك، وقال عكرمة: هو المستيقن، بلغة الحبشة، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال: أوّه، ابن أبي نجيح: المؤتمن. الكلبي: الأواه: المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة، وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله، وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن ساق أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبيَ صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه أوّاه»، وقيل: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
وقال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن ميّتاً فقال: «يرحمك الله إن كنت لأواه»، يعني تلاوة القرآن.
وقيل: هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته، وكان إبراهيم عليه السلام يقول: آه من النار قبل أن لا تنفع آه.
وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعه فإنه أواه». قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.
وقال النخعي: الأواه: الفقيه، وقال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، وقال سعيد بن جبير: الأواه المعلم للخير، وقال عبد العزيز بن يحيى: هو المشفق، وكان أبو بكر رضي الله عنه يُسمّى الأواه لشفقته ورحمته، وقال عطاء: هو الراجع عن كلمة ما يكره الله، وقال أيضاً: هو الخائف من النار، وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقاً وفرقاً المتضرع يقيناً ولزوماً للطاعة. قال الزجاج: انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل: في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتاً من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه، وقال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أُرحلها بليل *** تأوه آهة الرجل الحزين
قال الراجز:
فأوه الراعي وضوضا كلبه *** ولا يقال منه فعل يفعل
{حَلِيمٌ} عمن سبه وناله بالمكروه وقد قيل أنه عليه السلام استغفر لأبيه عند وعده إياه وشتمه، وقوله: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً} [مريم: 46] فقال له: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] وقال ابن عباس: الحليم السيد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7